بكاء من نوع آخر: قصة عشق بين الإنسان والطائرة
بقلم: مالك عبدالقادر المهداوي.
الحب له أشكال متعددة ومعانٍ عميقة تختلف من شخص لآخر. في هذه القصة، بكاء من نوع آخر والعشق بين الأنسان والطائرة. نجد نوعًا فريدًا من العشق، ليس بين إنسانين، بل بين إنسان وآلة حملت ذكرياته وخدمته طيلة حياته. إنها قصة حب وتفانٍ تُبرز الجانب الإنساني والمِهني في آن واحد.
|
| بكاء من نوع آخر: قصة عشق بين الإنسان والطائرة. |
بكاء من نوع أخر هي قصة عشق بين الانسان والطائرة تجسدت في موقف النائب الضابط الفني محمد في قاعة الوليد الجوية H-3 غرب العراق. يختلف العشاق ويختلف العاشقين ولهم في العشق مذاهب أخرى، تتجسد معاناة من أصيب به أن تظهر عليه أعراض من الإحساس واللوعة والعتاب والبكاء والذكريات عندما يفترق عن معشوقته مما يجعل بكاء الفراق مؤلماً وهو يقف أمام قبرها لكي يستذكر الماضي الجميل.
العشق بين الإنسان والطائرة
العشق بين الإنسان والطائرة في عالم الطيران قصة مختلفة تنبض بالشغف. ليس مجرد علاقة عمل عابرة تنتهي بانتهاء المهمة، بل علاقة متينة تمتد إلى أعمق المشاعر. الفني "ن.ض محمد" هو خير مثال على هذا النوع الفريد من العشق. لقد أفنى حياته في خدمة الطائرات، يعتني بها وكأنها كائن حيّ يحتاج إلى الحب والاهتمام.
رغم انتهاء عمر الطائرات التي عمل عليها، إلا أن ذكرياتها وتاريخها بقيت محفورة في ذاكرته، لا يمكن للتاريخ أن يلغي وجودها. كان يتحدث عنها بحماس، وكأنها صديق قديم، بينما يضحك زملاؤه على ما يقول، غير مدركين حجم الشوق الذي يحمله هذا العاشق النادر في قلبه.
"ن.ض محمد" ليس مجرد ميكانيكي؛ هو عاشق لطائرة تجاوزت كونها آلة. كانت كلماته تحمل حسًا مرهفًا، وشغفًا يكشف عن علاقة إنسانية مميزة مع شيء قد يراه الآخرون جمادًا. هذا العشق يثبت أن الحب يمكن أن يمتد لما وراء المألوف، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان، حتى وإن اختفت الطائرة، فإن الذكريات تظل تحلق في سماء روحه.
ذكريات الطائرة الهوكر هنتر
ذكريات الطائرة "الهوكر هنتر" تعيدنا إلى زمن مليء بالبطولات والعشق المهني. في إحدى زياراته لمطار سعد الثانوي، وقف المهندس الفني "ن.ض محمد" أمام طائرته القديمة "الهوكر هنتر". كانت تلك الطائرة شاهدة على بطولات الطيارين العراقيين في معارك تاريخية مثل حرب 1967 وحرب 1973. حين رآها بين الطائرات المهجورة، غمره حنين جارف وذكريات شريط حياته المهنية التي كرّسها في خدمتها.
"ن.ض محمد" لم يكن مجرد فنيّ؛ كان عاشقًا من نوع خاص. أحاط طائرته بحب واهتمام، واعتبرها جزءًا من حياته، ليس فقط لأنها آلة، بل لأنها رمز للتاريخ الذي عاشه. كان رجلاً وقورًا، معتدًا بنفسه، ومنتسبًا إلى الجناح الفني في قاعدة الوليد الجوية.
في أحد أيام الشتاء، وبينما كنت في قاعدة الوليد الجوية، قررت زيارة حانوت المراتب لقضاء بعض الوقت وشراء بعض الحاجيات. هناك، التقيت بزملاء من مختلف مدن العراق، جميعهم مجتمعون في هذا المكان البعيد بسبب مهنهم. وبين أطراف الحديث، روى أحد الفنيين عن تكليفه بمهمة الذهاب إلى مطار سعد الثانوي ضمن فريق لتفتيش مقبرة الطائرات، بهدف تقديم تقرير عن الأجزاء والمواد المهجورة التي قد تُستخدم كبدائل في ظل الحصار الجائر.
كانت "الهوكر هنتر" هناك، شاهدة على ماضٍ مجيد وذكريات لا تُنسى. كل قطعة منها تحمل حكاية عن الأيام التي خدم فيها الطيارون والفنيون وطنهم بشغف وتفانٍ، تاركين إرثًا لا يمكن للتاريخ أن يتجاهله.
جنود مجهولون وراء كل رحلة
جنود مجهولون يقفون خلف نجاح كل رحلة جوية، يعملون بصمت وتفانٍ لضمان صلاحية الطائرات واستمرار العمليات الجوية. هؤلاء الجنود، مثل المهندس الفني "ن.ض محمد"، يتحملون مسؤوليات جسيمة تشمل تجهيز الطائرات، فحصها، إصلاح أعطالها، ومراقبة أدائها الفني بشكل دقيق.
بينما تُسلَّط الأضواء على الطيارين الذين يقودون الطائرة، يبقى دور الفنيين خفيًا رغم أهميته القصوى. فبدون جهودهم المضنية، لا يمكن للطائرات أن تقلع أو تهبط بسلام. إنهم يعملون خلف الكواليس ليضمنوا أن كل رحلة تسير بأمان ونجاح.
الكثير من الناس يشاهدون الطائرات وهي تقلع وتهبط دون أن يدركوا حجم العمل الذي يجري خلف المشهد. الفنيون والمهندسون على الأرض يبذلون جهدًا يوميًا لضمان جاهزية الطائرات. يتم تدريب هذه الكوادر من خلال دورات فنية متخصصة لتطوير مهاراتهم في مجالات الصيانة والإصلاح.
عملهم ليس مجرد وظيفة؛ بل هو التزام دائم للحفاظ على سلامة الرحلات الجوية ونجاح العمليات. إنهم يمثلون العمود الفقري لعالم الطيران، وجنودًا مجهولين يُحتفى بإنجازاتهم من خلال نجاح كل طلعة جوية، لتظل بصمتهم محفورة في سماء الوطن.
هوكر هنتر: قصة عشق بين فنيٍّ وطائرة خالدة
ومن خلال سير حديث ن .ض محمد وهو يقول بعد أن وصلنا الى المطار بدأنا نفتش في ملاجئ الطائرات وساحات وقوفها ونسجل المواد المتروكة هنا وهناك ذهبنا الى مقبرة الطائرات ونحن نبحث بينها وننتقل هنا وهناك شد انتباهي هيكل طائرة الهوكرهنتر وقفت امامها نعم أنا أعرفها وانتابني شعور دون ارادتي شعرت بحزن وبدأت دموعي تنهمر أخرجت منديلي الذي أحمله من جيبي لكي أمسح تلك الدموع التي انهمرت واداريها وكأني أقف على قبر حبيبته بل هي طائرتي المعشوقه .
توجهت بالسؤال الى نائب ضابط محمد مالذي جعلك تتدفق بهذه العاطفه الجياشه ؟
قال سيدي : أنا قضيت جل حياتي في خدمة هذه الطائرات منذ أن كنت شاًبا في مقتبل العمر في الاسراب وجناح القتال والجناح الفني حتى نهاية خدمتها وإحالتها خارج الخدمة الا يحق لي أن أعشقها لاني كنت أحد الفنين عليها وتلك الطائرة التي شاهدتها والتي سقط واستشهد فيها المرحوم الطيار مهلب واذكر رقمها كانت أخر الطلعات الجوية لهذه الطائرة…
ويتكلم والعيون اغرورقت بالدموع . قال سيدي: أنا لم أقف على إمام قطعة من الألمنيوم بل أنا كأني أقف أمام أعتاب قبر حبيبه .
قال سيدي: هذه الطائره لو تتكلم لنطقت بما فعلته طوال خدمتها في الدفاع عن العراق والعرب . ستروي لنا بطولات طياريها حين دخلت الخدمة في عام 1957 وهي طائرة بريطانية الصنع فهي شاركت في جميع حروب العراق والامه العربيه وشاركت في معارك 1967م حرب حزيران وأدت الدور في تسجيل انتصاراتها على العدو الصهيوني وأما في حرب 1973م.
وكان لها الدور الفاعل في مشاركتها في الجبهه المصريه واجتياز خط بارليف والمشاركة في الضربه الجويه الاولى مع القوات المصرية وفي الحرب العراقية الايرانية ولم تقصر في تدريب وإعداد الطيارين في جناح القتال الجوي لإعداد القادة والى نهاية خدمتها واحالتها على التقاعد لكي تستريح وتنتقل الى مثواها الاخير.
موقف يروي التفاني والإبداع
في إحدى المرات، تعرضت طائرة الهوكر هنتر لعطل كبير في جناحها، مما جعلها خارج الخدمة. إلا أن "مستر هنتر"، أحد الفنيين المتميزين، قرر مع فريقه إصلاحها بسرية تامة ليعيدوا الطائرة إلى الخدمة. عمل الفريق ليالي طويلة، متحدين الصعاب، حتى أتموا المهمة بنجاح. رغم مخالفتهم للإجراءات الرسمية، أثبتوا أن التفاني وحب العمل يمكن أن يصنع المعجزات.
بادرت بسؤال بعد أن أكمل حديثة ماهي ذكرياتك عن زملائك من الفنيين؟ قال سيدي : لقد ترك قسم من هؤلاء الفنيين ذكريات لازالت باقية لا يمكن لي أن أنساها . قلت له ماهي تلك الذكريات ومن هم الاشخاص ؟
كانت هناك إحدى طائرات الهنتر قد حصل لها حادث وتضرر بها احد الاجنحه ضرراً جسيماً, كادت أن تخرج من الخدمة أو يتم نقلها الى الشركة لكي يعاد تأهيلها وتبديل أجنحتها. قرر مسترهنتر أن يجمع الفنيين من أصدقائه الذين يعرف كفاءتهم وتم التشاور معهم, حول إمكانية إصلاح الطائرة واستبدال جزء من الجناح بأجزاء أخرى.
وهو من يتحمل مسؤولية العمل وبدون أن يخبر أحد لحين أكمال تصليحها! لكي تكون مفاجئة وأن يكون العمل في الليل وهنا تطوعت هذه المجموعة الى تصليحها, ومن ضمن هذه المجموعة فني يحتسي الخمر فكان يضع الزجاجه على الجنح وأم كلثوم يصدح صوتها في (الهنكر), ويستمر بالعمل لوقت متأخر من الليل.
حتى تم أكمال تصليح الجزء التالف من جناح طائرة الهوكر هنتر التالفة, وتم صبغ الجناح وكأن جناح الطائرة لم يتضرر فذهب المستر هنتر الى آمر السرب, وأبلغه بأن الطائرة تم أكمال أصلاحها وامر السرب قام بفحصها واعطاها الصلاحيه الكامله .
تم إبلاغ المراجع بما جرى وكانت مفاجأة لهم, وأصبحت الطائرة في الخدمة بعد أن كانت خارجها ولكن المراجع العليا قد قررت أن توجه لهم عقوبة. لأنهم لم يقوموا بأخبار المراجع العليا بما قاموا به وبشكل انفرادي. مما يعتبر مخالفاً للقانون العسكري. ولكن نتيجة حرصهم وتفانيهم أرسلت لهم هدايا نقدية وكتاب شكر من قيادة القوة الجوية وهذا هو الضبط العسكري.
من هو المستر هنتر؟
كنت دائمًا شغوفًا بمعرفة قصة المستر هنتر، حتى اكتشفت أنني قد عملت معه في قاعدة سعد الجوية (H-2) فكان هو العقيد جاسب فرحان من اهالي مدينة العمارة. عندما سألته عن سر هذه التسمية، أجابني قائلاً: "هل تعرف مستر هنتر ومن يكون؟" فاستمعت بشغف.
المستر هنتر لم يكن شخصًا عاديًا؛ إنه فني متميز تفوق على زملائه بمهارته الفريدة ومعرفته بكل تفاصيل طائرة الهوكر هنتر. أطلق عليه الخبراء الإنجليز هذا اللقب تقديرًا لاحترافيته العالية. بدأ مسيرته كجندي أول بعد تخرجه من مدرسة الصنائع الجوية، لكنه لم يتوقف عند ذلك. أكمل دراسته المسائية، حصل على الشهادة الإعدادية، ثم واصل جهوده وحصل على شهادة البكالوريوس، ما أهّله للحصول على رتبة ملازم.
تدرج المستر هنتر في الرتب العسكرية حتى أصبح آمرًا للجناح الفني. كان العقيد جاسب فرحان، المعروف بمستر هنتر، رمزًا للتفاني والإبداع، وقد رافق مسيرة الطائرة الهوكر هنتر منذ دخولها الخدمة وحتى نهايتها في عام 1984.
أحد المواقف التي عكست حرصه وتفانيه ما زالت عالقة في ذهني. كلما تذكرتها، شعرت بالفخر والضحك معًا، لأنها تعبر عن شخصية مميزة ومليئة بالإخلاص لوطنه ومهنته.
التعليم والطموح لدى الفنيين
لم يكن طموح الفنيين العراقيين محصورًا في العمل الميداني فقط، بل تجاوز ذلك إلى التعليم وتحقيق الذات. كان العديد منهم يسعى لتطوير مهاراته ومعرفته من خلال الدراسة المسائية، حيث أكملوا تعليمهم الجامعي وحصلوا على شهادات البكالوريوس في مختلف التخصصات، مثل العلوم الإنسانية، القانون، الإدارة، والاقتصاد.
من بين هؤلاء الفنيين صاحب قصتنا، الذي حصل على شهادة البكالوريوس في الآداب قسم اللغة العربية. لقد كان مثالاً حيًا للشغف بالتعليم، والإصرار على تحقيق الأفضل. هؤلاء الفنيون كانوا أكثر من مجرد مهندسين؛ كانوا صمام الأمان للطائرات والطيارين، حيث أدوا دورًا أساسيًا في إدامة الطائرات وتجهيزها لضمان صلاحيتها للطيران.
حبهم لمهنتهم وحرصهم على تقديم الأفضل جعلهم العين الساهرة التي تضمن سلامة العمليات الجوية ونجاحها. لقد أظهروا كيف يمكن للتعليم والطموح أن يكونا عاملين مكملين للإبداع والتفاني في العمل، ليصبحوا قدوة للأجيال القادمة في الجمع بين التفوق المهني والتحصيل العلمي.
تحية إجلال للفنيين العراقيين
قدم الفنيون العراقيون نموذجًا فريدًا للتفاني والإخلاص في عملهم، حيث كانوا صمام الأمان للطائرات والطيارين، وساهموا بجهودهم الجبارة في ضمان استمرار العمليات الجوية بكفاءة عالية رغم جميع التحديات التي واجهتها البلاد.
كانوا يعملون بلا كلل خلف الكواليس، يحرصون على إدامة الطائرات وتجهيزها بأفضل صورة، متحملين مسؤولية كبيرة لضمان سلامة الطيارين ونجاح المهام. هؤلاء الفنيون لم يكونوا مجرد مهندسين أو عمال صيانة، بل كانوا جنودًا مجهولين يقدمون أرواحهم وطاقاتهم من أجل حماية وطنهم وتحقيق الأمن والسلامة.
اليوم، نقف إجلالًا لهؤلاء الأبطال، الذين أثبتوا أن التفاني والإصرار يمكن أن يتغلبا على أصعب الظروف. نترحم على من غادرنا منهم ونتمنى الصحة والعافية لمن ما زال على قيد الحياة، مستذكرين أعمالهم التي ستظل خالدة في ذاكرة الطيران العراقي.
إن ما قام به الفنيون العراقيون يمثل صفحة مشرقة من تاريخ العراق، ويؤكد أن الإخلاص والعمل الجاد هما مفتاح النجاح والتقدم. لهم منا كل الشكر والامتنان.
الخاتمة: قصة عشق "ن.ض محمد" للطائرة الهوكر هنتر ليست مجرد حكاية شخصية، بل هي رمز للتفاني والحب المهني الذي تجسده جهود الفنيين العراقيين. تحية تقدير لكل من ساهم في حماية سماء العراق، والرحمة للشهداء الذين قدموا أرواحهم فداءً لوطنهم.
