مواقف بطولية في أجواء الطيران الرديئة
بقلم: اللواء الطيار الركن قيس ربيع
الطيران العسكري ليس مجرد مهارة، بل هو اختبار دائم للشجاعة والكفاءة في مواجهة التحديات غير المتوقعة. عندما تتلبد السماء بالغيوم الكثيفة، وتعصف الرياح العاتية، وتغطي العواصف الرملية الأفق، يصبح التحليق في الهواء معركة بحد ذاتها. في مثل هذه الظروف القاسية، يظهر المعدن الحقيقي للطيارين الأبطال الذين يخاطرون بحياتهم في سبيل أداء واجبهم بكل احترافية وإصرار.
![]() |
مواقف بطولية في أجواء الطيران الرديئة |
في هذا المقال، نسلط الضوء على مواقف بطولية سجلها التاريخ لقواتنا الجوية في أجواء بالغة الصعوبة، حيث واجه الطيارون العراقيون ظروفًا جوية رديئة لم تمنعهم من تنفيذ مهامهم بكفاءة عالية، متسلحين بالخبرة والانضباط وروح التضحية. سنروي تفاصيل لحظات مصيرية كانوا فيها بين السماء والأرض، يتحدون المستحيل ليعودوا سالمين، تاركين دروسًا لا تُنسى للأجيال القادمة من صقور الجو.
تحديات الطيران في الأجواء المتقلبة
يواجه الطيارون العسكريون تحديات كبيرة أثناء تنفيذ المهام الجوية، خاصة في ظل الظروف الجوية القاسية التي تختلف بين مناطق العراق الشمالية والوسطى والجنوبية. فمع حلول فصل الشتاء، تزداد المخاطر بسبب الأمطار الغزيرة والعواصف الرعدية، بينما تتسبب العواصف الرملية والرياح العاتية في صعوبة الطيران خلال بقية فصول السنة. هذه العوامل الجوية الصعبة تتطلب مهارات استثنائية من الطيارين وفرق الطيران لضمان تنفيذ المهام بأمان وكفاءة.
نقل السرب 109 إلى قاعدة الوحدة الجوية
نقل السرب/ 109 المسلح بطائرات السوخوي – 22 هجوم ارضي من (قاعدة تموز الجوية - الحبانية) الى (قاعدة الوحدة الجوية – الشعيبة) في يوم الاثنين المصادف (29 تشرين الاول 1979). وان اختلاف الجو بين القاعدتين قد اثر بشكل واضح على تنفيذ نشرة التدريب وجمع ساعات الطيران السنوية. والتي يستوجب تنفيذ (120) ساعة طيران تدريبي لكل طيار.
والتي تشمل جميع الواجبات (طيران عام – الات – ملاحة (عالية – متوسطة – واطئة) – الضربات الجوية التشبيهية – تشكيل قتال (واطئ – متوسط – عالي) – الهجوم بالمسددة – رمي ( قنابر – صواريخ – عتاد) قتال جوي (ا×1) لان المنطقة الجنوبية معرضة للعواصف الترابية والتحذير الجوي على مدار السنة.كانت الفروقات المناخية بين القاعدتين واضحة، مما أثر على تنفيذ برامج التدريب السنوية التي تشمل 120 ساعة طيران لكل طيار، تغطي مختلف أنواع الطيران مثل:
-
الطيران العام.
-
الطيران الآلي.
-
الملاحة الجوية على ارتفاعات مختلفة.
-
الضربات الجوية التشبيهية.
-
التدريبات القتالية الجوية والهجومية.
نظرًا لكون المنطقة الجنوبية معرضة للعواصف الرملية المستمرة، كان على الطيارين التكيف مع هذه الظروف لضمان استمرارية التدريب.
مهمة استطلاعية في أجواء غائمة
ففي بداية (شهر كانون الثاني 1980) كلفت بتنفيذ احد الواجبات الاستطلاعية بتشكيل مؤلف من طائرتين سوخوي – 22 (بقيادتي ورقم (2) الملازم الاول الطيار ناجي احمد عبد) قرب مدينة (الفاو) , كان الجو على العموم غائم ومصحوب بزخات مطر , وعند نزول التشكيل تم تبليغ امر السرب/109 بذلك.
وخلال ذلك اليوم وضمن منهج الطيران اليومي هناك واجبا تدريبي (ضربه جوية تشبيهية واطئة ). مؤلف من (4) طائرات سوخوي – 22 بقيادة (الرائد الطيار وليد يونس حمودي ورقم (2) الملازم الطيار كاظم مطشر ابراهيم ورقم (3) الملازم الاول الطيار ط ورقم (4) الملازم الطيار صباح سعد حسين ال جادر ). على منطقة (بصيه) الواقعة قرب الحدود العراقية - السعودية.
التحديات أثناء تنفيذ الضربة الجوية التدريبية
لا زالت الاجواء ملبدة بالغيوم الواطئة (8/8) , وبعد اخذ الموافقات الخاصة بالطيران , اقلع قائد التشكيل ورقم (2) وبعد دقيقة واحده اقلع رقم (3) ورقم (4). كنت واقفا بالقرب من كرفان السيطرة للسرب/109 . اتصل رقم (3) بقائد التشكيل وقال له (سيدي العجلات الرئيسية ما ترفع) , فقال له قائد التشكيل لرقم (3) ارجع فرجع هو ورقم (4).
بدأت زخات المطر تهطل بكثافة , فذهبت مسرعاً الى كرفان السيطرة بالقرب من بداية المدرج. رجع رقم (3) لغرض التقرب والنزول وكان قد تقاطع (cross) مع المدرج بحدود (30)ᵒ. فاتصلت برقم (3) وقلت له (ط انت ما تشوف المدرج).
فأجابني: (لا سيدي ما اشوف المدرج ).
فقلت له: (اعمل دوره ثانية) .
خلال هذه اللحظات اتصلت بسيطرة القاعدة وقلت لهم (اتصلوا بقاطع الدفاع الجوي الثالث وابلغوا قائد التشكيل بالرجوع والغاء الواجب).
هبوط الطائرات وسط المطر الكثيف
خلال هذه اللحظات كان رقم (4) في التقرب الاخير للنزول فكنت اعطيه التعليمات لغرض النزول (الدوران يمينا ويسارا والانحدار وتقليل السرعة وانزال العجلات) حتى وصوله فوق المدرج.
فقلت له: (صباح انت فوق المدرج).
فقال: (سيدي اني ما اشوف المدرج هل انزل ).
فقلت له: (صباح انت فوق المدرج انزل انزل) (فنزل) وهو لا يرى من المدرج شيء بسبب الامطار على الزجاجة الامامية والتي حجبت عنه الرؤيا.
فقال: (شكرا سيدي).
فقلت له: (اخلي المدرج) فأخلى المدرج بعد ان فتح غطاء المقصورة لغرض تحسين الرؤيا واتجه الى موقف الطائرات.
أما رقم (3) فكان في التقرب الاخير وتم اعطاء التعليمات الخاصة بالنزول وعند وصوله فوق المدرج وارتفاعه بحدود (5-10) متر. قلت له: (ط انزل ).
فقال: (سيدي اني فوق المدرج).
فقلت له: (اي نعم انزل).
الا انه دفع اقصى دورات محرك (MAX RPM ) ولم اعرف سبب عدم نزوله ؟ فتسلق لعمل دوره ثانية وكنت هادئ جداً معه , وعند تقربه للمرة الثانية واعطاءه العليمات من قبلي وعند وصوله فوق المدرج.
فقلت له: وبصوت هادئ (ط انت فوق المدرج وارتفاعك (3) متر (ط انزل).
فقال: (سيدي هل انزل).
فقلت له (نعم انزل) فنزل بسلام بعد ان فتح مقصورة الطيار ليرى طرق الدرج وتوجه الى موقف الطائرات.
أما قائد التشكيل والذي لديه الخبرة ومن الطيارين الكفوئين وخريج كلية الطيران الباكستانية ولديه ساعات طيران كثيرة، ومن المشاركين في حرب تشرين المجيدة عام (1973). ورقم (2) فقام قائد التشكيل بأنزال رقم (2) باتجاه عكس المدرج المستعمل (مع الريح). ثم نزل قائد التشكيل , نزل التشكيل بسلام والحمد لله.
أهمية التوقيت والتخطيط في تنفيذ المهام الجوية
ان تنفيذ مثل هذه الواجبات وفي هذه الاجواء الرديئة يتطلب التأني والانتظار لمعرفة حالة الجو , هل تسوء او تستقر , او تتحسن , وكان القاطع قد اخطأ عند اعطاء الموافقة على الطيران لتشكيل الضربة الجوية. لأن مقر القاطع في (قاعدة علي الجوية – الناصرية) والتي تبعد بحدود (200) كم عن (قاعدة الوحدة الجوية – الشعيبة). وكان هناك تحذير جوي في (الناصرية) .
وان الوقت الذي تستغرقه العواصف الترابية او المطرية من (الناصرية الى الشعيبة - 45 – 60) دقيقة , هذا ما كنا نحسب له حساب ولو كانت هناك حادثة على مدرج القاعدة لفقدنا على الاقل (2-3) طائرات, لكون القاعدة الاحتياطية لقاعدة الشعيبة هي قاعدة الناصرية. كما ان قائد التشكيل قد نفذ الطيران في مثل هذه الاجواء لغرض التدريب وحرصه على تنفيذ مثل هذه الواجبات في الاجواء الرديئة.
توجيهات حاسمة لإنقاذ الموقف
في ظل الأجواء الماطرة الكثيفة، واجه الطيارون تحديات كبيرة أثناء عملية الهبوط، مما تطلب قرارات سريعة وتوجيهات دقيقة لضمان سلامتهم وسلامة الطائرات. عند اقتراب الطيار رقم 4 من المدرج، تسببت غزارة الأمطار في انعدام الرؤية تقريبًا، مما جعله غير قادر على تحديد موقع الهبوط بدقة. قمت بتوجيهه للاستمرار في التقدم مع الحفاظ على مستوى الطيران الصحيح حتى نجح في الهبوط بسلام.
أما الطيار رقم 3، فقد واجه صعوبة أكبر، حيث تردد في خفض الطائرة رغم اقترابه من المدرج، مما استدعى إعادة المحاولة عدة مرات. بفضل التوجيهات المستمرة وإعادة ضبط مساره، تمكن أخيرًا من تنفيذ الهبوط بنجاح. هذه اللحظات الحرجة أظهرت أهمية القيادة الهادئة واتخاذ القرارات الصائبة تحت الضغط، حيث كان التنسيق الدقيق بين أفراد السرب هو المفتاح لعودة الجميع بأمان رغم الظروف الجوية القاسية.
القيادة الماهرة تحسم الموقف
في ظل الظروف الجوية القاسية، برزت مهارة قائد التشكيل، الذي امتلك خبرة واسعة اكتسبها من تدريبه في كلية الطيران الباكستانية وسنوات من الخدمة في القوة الجوية العراقية. بفضل قراراته السريعة وقدرته على تقييم الوضع بدقة، تمكن من توجيه الطيارين للهبوط بأمان رغم الرياح العاتية والأمطار الغزيرة.
أظهر الطيارون التزامًا عاليًا بتوجيهاته، حيث نجح في إنزال الطائرة رقم 2 في مواجهة الرياح القوية، مستخدمًا تقنيات متقدمة للحفاظ على السيطرة الكاملة أثناء الهبوط. بعدها، تولى بنفسه عملية الهبوط الأخيرة، مستفيدًا من خبرته في التعامل مع مثل هذه التحديات الجوية.
بفضل هذا التنسيق المحكم والقيادة الحكيمة، تمكن التشكيل بأكمله من العودة إلى الأرض دون خسائر، ما يؤكد أن الخبرة والانضباط والتخطيط الجيد هي العناصر الأساسية لنجاح العمليات الجوية، حتى في أصعب الظروف.
دروس مستفادة للأجيال القادمة
تعكس هذه التجربة البطولية شجاعة الطيارين العراقيين وكفاءتهم في مواجهة الظروف الجوية القاسية، حيث أثبتوا قدرتهم على التصرف بحكمة واتخاذ القرارات الصائبة في أصعب اللحظات. هذه التجارب لا تقتصر على كونها مجرد أحداث تاريخية، بل هي دروس حية يجب أن يتعلم منها الطيارون الجدد، ليكونوا مستعدين لمواجهة التحديات الجوية المختلفة.
يتطلب الطيران في الظروف الصعبة مهارات عالية وتدريبًا مستمرًا، إضافة إلى الانضباط والشجاعة، وهي صفات يجب أن يتحلى بها كل طيار. لذا، فإن مشاركة هذه القصص مع الأجيال القادمة تساهم في تعزيز خبراتهم وإعدادهم لمواجهة المواقف الحرجة التي قد تصادفهم أثناء تنفيذ مهامهم.
رحم الله شهداء القوة الجوية العراقية وحفظ الله الأبطال الذين لا يزالون يحملون راية الدفاع عن الوطن بكل إخلاص وشرف، مقدمين أروع الأمثلة في التضحية والفداء.
ختامًا: تُعد هذه المواقف البطولية دليلًا على أهمية الالتزام والانضباط في صفوف القوات الجوية. مثل هذه التجارب تشكل مصدر إلهام للأجيال القادمة من الطيارين، وتؤكد أن الشجاعة والمهارة هما مفتاح النجاح في كل المهام الجوية.
ان هذه المواقف وغيرها قد نستفيد منها ونسلط الضوء عليها لغرض تعليم وتدريب صقورنا الابطال , هكذا كان صقور السرب/109 ابطال حقيقيون مضحون من اجل العراق , تغمد الله من استشهد منهم ومن ابناء القوة الجوية والقوات المسلحة , وحفظ الله الباقين وادام الله لهم نعمة الصحة والعافية والامن والامان .